تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 88 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 88

88 : تفسير الصفحة رقم 88 من القرآن الكريم

** أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوَاْ إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوَاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشّيْطَانُ أَن يُضِلّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىَ مَآ أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدّونَ عَنكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مّصِيبَةٌ بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً * أُولَـَئِكَ الّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لّهُمْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً
هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين, وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله, كما ذكر في سبب نزول هذه الاَية أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخصاما, فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد, وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف, وقيل: في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام, أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية, وقيل غير ذلك, والاَية أعم من ذلك كله, فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة. وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل, وهو المراد بالطاغوت ههنا, ولهذا قال {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} إلى آخرها. وقوله {ويصدون عنك صدود} أي يعرضون عنك إعراضاً كالمستكبرين عن ذلك, كما قال تعالى عن المشركين: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءن} وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعن} الاَية.
ثم قال تعالى في ذم المنافقين: {فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم} أي فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم, واحتاجوا إليك في ذلك {ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيق} أي يعتذرون إليك ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك, وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان والتوفيق, أي المداراة والمصانعة لا اعتقاداً منا صحة تلك الحكومة, كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله {فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى ـ إلى قوله ـ فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين}. وقد قال الطبراني: حدثنا أبو زيد أحمد بن يزيد الحوطي, حدثنا أبو اليمان, حدثنا صفوان بن عمر عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه, فتنافر إليه ناس من المسلمين, فأنزل الله عز وجل {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ـ إلى قوله ـ إن أردنا إلا إحساناً وتوفيق}.
ثم قال تعالى: {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم} هذا الضرب من الناس هم المنافقون, والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك, فإنه لا تخفى عليه خافية, فاكتف به يا محمد فيهم, فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم. ولهذا قال له {فأعرض عنهم} أي لا تعنفهم على ما في قلوبهم {وعظهم} أي وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر, {وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغ} أي وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم.

** وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ أِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنّهُمْ إِذ ظّلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوّاباً رّحِيماً * فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُواْ فِيَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مّمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً
يقول تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع} أي فرضت طاعته على من أرسله إليهم. وقوله {بإذن الله} قال مجاهد: أي لا يطيع أحد إلا بإذني, يعني لا يطيعهم إلا من وفقته لذلك, كقوله {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه} أي عن أمره وقدره ومشيئته وتسليطه إياكم عليهم. وقوله {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم} الاَية, يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم, فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم, ولهذا قال {لوجدوا الله تواباً رحيم} وقد ذكر جماعة منهم الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العتبي, قال: كنت جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم, فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله, سمعت الله يقول {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيم} وقد جئتك مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربي. ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمهفطاب من طيبهن القاع وا لأكمنفسي الفداء لقبر أنت ساكنهفيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم انصرف الأعرابي, فغلبتني عيني فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم, فقال يا عتبي, الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له».
وقوله {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور, فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً, ولهذا قال {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليم} أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به, وينقادون له في الظاهر والباطن, فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة, كما ورد في الحديث «والذي نفسي بيده, لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لم جئت به». وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله, حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا معمر عن الزهري, عن عروة, قال: خاصم الزبير رجلاً في سْريج من الحرة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك» فقال الأنصاري: يا رسول الله أن كان ابن عمتك, فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: «اسق يا زبير, ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر, ثم أرسل الماء إلى جارك». واستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري, وكان أشار عليهما صلى الله عليه وسلم بأمر لهما فيه سعة, قال الزبير: فما أحسب هذه الاَية إلا نزلت في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} الاَية. هكذا رواه البخاري ههنا, أعني في كتاب التفسير من صحيحه من حديث معمر, وفي كتاب الشرب من حديث ابن جريج ومعمر أيضاً, وفي كتاب الصلح من حديث شعيب بن أبي حمزة, ثلاثتهم عن الزهري, عن عروة, فذكره, وصورته صورة الإرسال, وهو متصل في المعنى, وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال, فقال: حدثنا أبو اليمان, حدثنا شعيب عن الزهري, أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه كان)يخاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة, كانا يسقيان بها كلاهما, فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير «اسق ثم أرسل إلى جارك» فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: «اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر» فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير: حقه, وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري, فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم, قال عروة: فقال الزبير: والله ما أحسب هذه الاَية نزلت إلا في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم, ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليم}, هكذا رواه الإمام أحمد, وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير, فإنه لم يسمع منه, والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله, فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم, رواه كذلك في تفسيره, فقال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى, حدثنا ابن وهب, أخبرني الليث ويونس عن ابن شهاب, أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام, أنه خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, في شراج الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل, فقال الأنصاري: سرح الماء يمر, فأبى عليه الزبير, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك» فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله, أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم قال: «اسقِ يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر» واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصار, فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم, استوعى للزبير حقه في صريح الحكم, فقال الزبير: ما أحسب هذه الاَية إلا في ذلك {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليم} وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب به. ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث به. وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير. وكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير. والله أعلم. والعجب كل العجب من الحاكم أبي عبد الله النيسابوري فإنه روى هذا الحديث من طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه عن عروة, عن عبد الله بن الزبير, عن الزبير, فذكره, ثم قال: صحيح الإسناد, ولم يخرجاه. فإني لا أعلم أحداً قام بهذا الإسناد عن الزهري بذكر عبد الله بن الزبير غير ابن أخيه وهو عنه ضعيف, وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن علي أبو دحيم, حدثنا أحمد بن حازم, حدثنا الفضل بن دكين, حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار, عن سلمة رجل من آل أبي سلمة, قال: خاصم الزبير رجلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للزبير, فقال الرجل: إنما قضى له لأنه ابن عمته, فنزلت: {فلا وربك لا يؤمنون} الاَية, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا عمرو بن عثمان, حدثنا أبو حيوة, حدثنا سعيد بن عبد العزيز, عن الزهري, عن سعيد بن المسيب في قوله {فلا وربك لا يؤمنون} قال: نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة, اختصما في ماء, فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل, هذا مرسل ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري.
(ذكر سبب آخر غريب جداً) ـ قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة, أخبرنا ابن وهب, وأخبرني عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود, قال: اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما, فقال المقضي عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعم», انطلقا إليه, فلما أتيا إليه, فقال الرجل: يا ابن الخطاب قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا. فقال: ردنا إلى عمر بن الخطاب, فردنا إليك: فقال: أكذاك ؟ قال: نعم. فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما. فخرج إليها مشتملاً على سيفه فضرب الذي قال: ردنا إلى عمر فقتله, وأدبر الاَخر فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله, قتل عمر والله صاحبي, ولولا أني أعجزته لقتلني, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كنت أظن أن يجترىء عمر على قتل مؤمن» فأنزل الله {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك} الاَية, فهدر دم ذلك الرجل وبرىء عمر من قتله, فكره الله أن يسن ذلك بعد, فأنزل {ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم} الاَية, وكذا رواه ابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود به, وهو أثر غريب مرسل, وابن لهيعة ضعيف والله أعلم.
(طريق أخرى) ـ قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في تفسيره: حدثنا شعيب بن شعيب, حدثنا أبو المغيرة, حدثنا عتبة بن ضمرة, حدثني أبي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل, فقال المقضي عليه: لا أرضى, فقال صاحبه: فما تريد ؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق, فذهبا إليه, فقال الذي قضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقضى لي, فقال أبو بكر: أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأبى صاحبه أن يرضى, فقال: نأتي عمر بن الخطاب, فقال المقضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فقضى لي عليه, فأبي أن يرضى, فسأله عمر بن الخطاب فقال كذلك, فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قد سله, فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله, فأنزل {فلا وربك لا يؤمنون} الاَية.